سيرة رياض السنباطي: موسيقار شرّف الأغنية العربية

رياض السنباطي هو أحد أعمدة الموسيقى العربية الكلاسيكية، فهل يمكن أن تذكر النهضة الموسيقية دون أن يذكر اسمه؟ رياض السنباطي هو اللحن العميق، والصوت الصامت في خلفية القصائد، وهو البصمة التي لا تخطئها أذن في أعمال أم كلثوم. من هو هذا الموسيقار؟ وما هي أهم إسهاماته؟ وما علاقته بكبار النجوم؟ هذا ما سنعرفه في هذا المقال، الذي يأخذك في رحلة فنية وزمنية عبر سيرة هذا الفنان الذي خلد اسمه في وجدان العرب.
ما هي الأغاني التي لحنها رياض السنباطي لأم كلثوم؟
ارتبط اسم رياض السنباطي بأم كلثوم كما ارتبط القمر بالليل. فكان هو ملحن القصائد والأغنيات الطويلة التي حملت عبق الزمن الجميل، ومثّلت ذروة النضج الفني للأغنية العربية. لقد بدأت علاقتهما الفنية في أربعينيات القرن العشرين، واستمرت حتى وفاته، وشهدت خلالها المكتبة الموسيقية العربية ميلاد عشرات الألحان التي لا تزال تردد إلى اليوم.
تعرف أيضًا على: نور الشريف: بين السينما والتلفزيون، تاريخ من الإبداع
لحن السنباطي لأم كلثوم ما يقرب من 90 عملًا غنائيًا، تراوحت بين القصائد الدينية، والوطنية، والعاطفية، وحتى الأناشيد. من أبرز هذه الأعمال نذكر: “الأطلال”، وهي من كلمات الشاعر إبراهيم ناجي، وتعد من أشهر ما غنّته أم كلثوم على الإطلاق. ثم قصيدة “نهج البردة”، التي أبدع فيها السنباطي لحنًا صوفيًا روحانيًا غاية في الجمال. كما لحّن لها “وصفوا لي الحب”، و”سلوا قلبي”، و”إرادة الحياة”، و”حديث الروح”، وغيرها من الروائع التي رفعت الأغنية العربية إلى مصاف الأدب الراقي.
تميزت ألحانه لها بالتركيب الموسيقي المتقن، والاعتماد على المقامات الشرقية الأصيلة، مع إدخال عناصر تجديدية في الأداء، مثل الانتقالات المفاجئة داخل اللحن، أو التصاعد النغمي البطيء الذي يخلق حالة من الترقب لدى المستمع. ما كان يميز لحن السنباطي، أنه كان يعامل النص الغنائي كقطعة شعرية قائمة بذاتها، يجب أن تحترم وتعزف كما تتلى قصيدة.
تعرف أيضًا على: أحمد زكي: الإمبراطور الذي جسّد نبض الناس
ألحان رياض السنباطي المتنوعة
وفي إطار الحديث عن ألحانه المتنوعة، لا يمكن تجاهل الأثر الذي تركه في الأغنية الوطنية. حيث لحّن لأم كلثوم “مصر تتحدث عن نفسها”، وهي من أروع ما كتب حافظ إبراهيم، و”ثوار”، التي جاءت تزامنًا مع المد القومي في خمسينيات وستينيات القرن العشرين. كانت تلك الألحان بمثابة رسائل تحفيزية لجيل كامل، تصوغ وعيه الوطني من خلال النغمة والكلمة.
أما من حيث العدد والتأثير، فإن جميع أعمال رياض السنباطي التي قدّمها لأم كلثوم تشكّل خزانة ذهبية في تاريخ الطرب العربي. كل عمل منها يحمل طابعًا خاصًا، وتاريخًا يروي لحظة من لحظات التحوّل في مسيرة الفن العربي، وهي في مجملها تمثل شهادة موثّقة على عبقرية هذا الفنان، وقدرته على تحويل الشعر العربي إلى نغمة خالدة. [1]
من هو رياض السنباطي؟
إن الحديث عن رياض السنباطي هو غوصٌ في بحرٍ من الفن الصافي، والعبقرية المتجددة التي أخرجت الأغنية العربية من حدود البساطة التقليدية إلى رحاب الأفق الرحب والتعبير الأصيل. ولد رياض محمد السنباطي في 30 نوفمبر 1906 بمدينة فارسكور بمحافظة دمياط في مصر. ونشأ في بيئة موسيقية أصيلة، فوالده كان مقرئًا ومنشدًا دينيًا، له حنجرة قوية وحس موسيقي نقي، وهو من علّمه العزف على العود منذ سن الطفولة.
عاش السنباطي طفولته في مدينة المنصورة، وهناك بدأ يغني وينشد في الحفلات المحلية، قبل أن يشدّ الرحال إلى القاهرة عام 1928، ليلتحق بمعهد الموسيقى العربية ويبدأ أولى خطواته الرسمية في عالم التلحين. ما لبث أن أثبت موهبته، فشدّت ألحانه انتباه كبار الفنانين، وبدأت رحلته الحقيقية بعد أن تعرّف إلى أم كلثوم، حيث بدأت بينهما شراكة فنية خالدة.
تعرف أيضًا على: أحمد حلمي رحلة فنان صنع الضحكة من أعماق الواقع
تميّز رياض بأسلوب فريد جمع بين الأصالة والتجديد، حيث لم يركن إلى القوالب الموسيقية التقليدية. بل طوّرها وأضاف إليها نَفَسًا شخصيًا واضحًا. لم يكن مجرد ملحن. بل كان مفكرًا موسيقيًا ينظر إلى كل لحن كأنه مشروع فني مكتمل الأركان، من المقام إلى الإيقاع، ومن الجملة اللحنية إلى التوزيع.
وعلى الصعيد الشخصي، كان إنسانًا هادئًا متأملًا، يميل إلى الانعزال والعمل في صمت، ويعرف عنه حبه الشديد لآلات العود، حتى قيل إن العود كان له بمثابة الرفيق والصديق. كان أيضًا شديد التعلق بالأدب العربي والشعر، وهو ما انعكس في اختياره الدقيق للكلمات التي يلحنها.
الجوانب الإنسانية في حياة رياض السنباطي
ومن أبرز الجوانب الإنسانية في حياته، كانت علاقته الأسرية المستقرة، إذ تزوج من امرأة خارج الوسط الفني، عرفت بتفهّمها لطبيعته الهادئة وعشقه للفن. وقد أثّرت زوجة رياض السنباطي بشكل إيجابي في استقراره النفسي، وكانت سندًا حقيقيًا له في حياته المهنية والشخصية. لم تظهر كثيرًا في الأضواء، لكنها كانت حاضرة في تفاصيل يومه، ما ساعده على التفرغ التام للإبداع.
تعرف أيضًا على: سيرة محمد عبد الوهاب: نغم لا يشيخ
ولعل من أهم أسباب استمرارية السنباطي وتفرّده، هو أنه لم يسعَ للشهرة بقدر ما سعى للكمال الفني، فكان يرفض بعض الأعمال إن لم يقتنع بها، حتى لو جاءت من كبار الشعراء أو المطربين. التزامه هذا أكسبه احترام كل من تعاملوا معه، وجعل مكانته محفوظة كأحد أكثر الموسيقيين نزاهة وصدقًا مع فنه.
إن السيرة الذاتية لـرياض السنباطي لا تقرأ كقصة نجاح فني فقط، بل كدرسٍ في الإخلاص للفن، وفي الإيمان بأن الموسيقى ليست مجرد ألحان تعزف، بل رسالة تحس وتخلّد.

من هو أكثر ملحن لحن لام كلثوم؟
سؤال تردده الألسنة كثيرًا: من هو أكثر من لحّن لأم كلثوم؟ والإجابة قد تبدو مفاجئة للبعض. لكنها محسومة لدى العارفين بتاريخ الموسيقى العربية. إنه رياض السنباطي، الذي لم يكن مجرد ملحن عابر في مسيرتها، بل كان أحد الأعمدة الأساسية التي ارتكزت عليها في رحلتها الفنية الطويلة.
لحن السنباطي ما يزيد عن 90 أغنية لأم كلثوم، وهو ما يجعله يتفوّق عددًا ونوعًا على كل من تعاونت معهم. بما فيهم كبار الملحنين مثل محمد القصبجي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، وبليغ حمدي. لكن التفوق لم يكن فقط في الكم. بل في الكيف. فأغاني السنباطي كانت مختلفة، تحمل طابعًا كلاسيكيًا راقيًا، يتناغم تمامًا مع صوت كوكب الشرق. ويبرز طبقاتها الصوتية كما لا يفعل غيره.
تعرف أيضًا على: راشد الماجد: سندباد الأغنية الخليجية وصوت الشباب
كان السنباطي بالنسبة لأم كلثوم كالمخرج الذي يفهم إمكانيات بطله. لم يكن يلحن فقط ما يطلب منه. بل كان يصوغ كل لحن وكأنه يعيد تشكيل النص من جديد، يمنحه روحًا أخرى تنبع من داخله. وهذا ما جعل أغانيه لها تحمل دائمًا توقيعًا فنيًا مميزًا يعرف فورًا.
التعاون الفني بين رياض السنباطي وأم كلثوم: رحلة ألحان خالدة عبر العقود
ومن المعروف أن أم كلثوم كانت شديدة الدقة في اختيار من تلحن لهم، ولم تكن تمنح ثقتها بسهولة، خصوصًا في المراحل المتأخرة من مسيرتها. لكنها كانت دائمًا تعود إلى رياض السنباطي، لا سيما في الأعمال الكبرى والقصائد. لأنه كان يفهم صوتها وأدواتها، ويعرف كيف يحرّك جمهورها، ويصوغ اللحن الذي يناسب عظَمة النص وعظَمة صوتها.
أما عن طبيعة التعاون بينهما، فكانت تتسم بالاحترام الشديد المتبادل. لم تكن علاقتهما خالية من الخلافات، لكنها كانت خلافات فنية ناضجة، تدور حول الجملة اللحنية أو طريقة الأداء. ومع ذلك، ظل السنباطي هو ركيزة الألحان الكبرى، والمصدر الأوثق لأم كلثوم حين ترغب في عمل خالد.
وقد أشار النقاد إلى أن هناك ثلاثة أطوار في التعاون بين السنباطي وأم كلثوم: الأول في الأربعينيات. حيث ظهرت أعماله الكلاسيكية الأولى لها مثل “سلوا قلبي” و”نهج البردة”، والثاني في الخمسينيات والستينيات، حين صاغ معها الأغاني الوطنية والقصائد الرومانسية، والثالث في السبعينيات. حيث قدم لها آخر ألحانه، محتفظًا بجودته وروحه المتفرّدة رغم تقدمه في السن.
تعرف أيضًا على: بليغ حمدي: ملك الألحان وصانع أنغام لا تموت
هذا التنوع الزمني يثبت أن السنباطي لم يكن مجرد ملحن حَظِي بفترة مجد عابرة. بل كان ملحنًا متجددًا، يواكب التغيّر دون أن يتخلى عن هويته الفنية الأصيلة. ولذلك، لم يكن غريبًا أن يجمع النقاد والجمهور معًا على أنه أكثر من لحّن لأم كلثوم، وأكثر من ترك أثرًا خالدًا في وجدانها ووجدان من أحبوها. [2]
ماذا قال محمد عبد الوهاب عن رياض السنباطي؟
لقد جمع بين رياض السنباطي ومحمد عبد الوهاب احترام متبادل، وتقدير فني عميق، رغم اختلاف أسلوب كل منهما، وتنافسهما الطبيعي داخل الساحة الفنية التي لم تتسع سوى للكبار فقط. لكن المدهش أن هذا التنافس لم يفسد للود قضية. بل ظلّت العلاقة بينهما يسودها التقدير، وأثمرت عن تصريحات نادرة ومؤثرة من عبد الوهاب تجاه السنباطي. عكست رؤيته العميقة لعبقريته الموسيقية.
فيما يلي أهم ما قاله محمد عبد الوهاب عن رياض السنباطي، كما وثقته الصحف والبرامج والمقابلات:
“السنباطي موسيقار من طراز خاص، يستطيع أن ينطق الحجر ألحانًا.”
بهذه العبارة وصف عبد الوهاب قدرة السنباطي على تحويل الكلمات الجامدة إلى لحن حيٍّ ينبض بالعاطفة والمعنى. وهو أعلى أشكال المديح التي قالها عبد الوهاب عن أي ملحن آخر.
“عندما أسمع الأطلال، أندم لأنني لم أضع لحني أنا على هذه القصيدة.”
كان عبد الوهاب معجبًا بلحن الأطلال إلى درجة الحسد الفني الراقي، واعتبر أن هذا العمل يلخص عبقرية رياض السنباطي، وقدرته على مزج الجمال اللحني بالفخامة الشعرية.
“لو لم يظهر السنباطي، لتغيّر مسار الأغنية العربية الكلاسيكية.”
هذا التصريح يؤكد مدى إدراك عبد الوهاب لمكانة السنباطي التاريخية، وقدرته على إعادة تشكيل الأغنية العربية الكلاسيكية بأسلوبه الخاص. دون أن يكون تابعًا لأي مدرسة أخرى.
تعرف أيضًا على: زكريا تامر وحكايات الواقع السوري بعيون رمزية
عبد الوهاب يتحدث عن السنباطي
“كنا نختلف، نعم، لكننا لا نتصادم. لأنني أعرف أن السنباطي لا يلحن إلا عن حب، ولا يتنازل عن الكمال.”
يوضح هذا الاقتباس طبيعة العلاقة بينهما؛ تنافس شريف، واحترام بين مدرستين فنيتين، جمعت بين العقلانية في أسلوب عبد الوهاب، والوجدانية في مدرسة السنباطي.
“من يعزف العود مثل السنباطي، يفهم الموسيقى من قلبها، لا من عقلها فقط.”
في هذه الجملة، يظهر عبد الوهاب إعجابه بعزف السنباطي، خصوصًا على آلة العود، التي كانت أداة تعبيره الأبرز، ومصدر تميزه اللحني، إذ كانت تترجم أحاسيسه الداخلية قبل أن تتحوّل إلى ألحان مكتوبة.
“إنه لا يجامل ولا يقلد أحدًا. السنباطي فنان حر، وهذا سرّ عبقريته.”
بهذه العبارة يجلي عبد الوهاب شخصية السنباطي الفنية التي لم تسعَ وراء الجماهيرية العابرة أو التكرار. بل كانت دائمًا مخلصة لذاتها.
تعرف أيضًا على: بهاء طاهر وسيمفونية الحنين أدبٌ يحمل الوطن في قلبه
ولا تكتمل الصورة دون التطرق إلى جانب من حياته الخاصة، إذ يذكر أن أبناء رياض السنباطي تحدثوا في مناسبات عدّة عن تقدير عبد الوهاب لوالدهم. وزياراته له في أيامه الأخيرة، وتأكيده المستمر على أن السنباطي سيبقى علامة لا تنسى في تاريخ الموسيقى العربية.
هكذا تحدث محمد عبد الوهاب عن السنباطي، لا من موقع المنافس. بل من موضع التلميذ الذي يرى في زميله درسًا عظيمًا في الإبداع والصدق الفني. وهي شهادة تكفي وحدها لتؤكد أن رياض السنباطي لم يكن مجرد ملحن. بل كان حالة موسيقية فريدة تستحق كل الاحترام.
المراجع
- Britannica Sheikh Mohammed ibn Rashid Al Maktoum - بتصرف
- Study United Arab Emirates | Countries, Religion & Government_بتصرف
مشاركة المقال
وسوم
هل كان المقال مفيداً
الأكثر مشاهدة
ذات صلة

الأمير بدر بن عبد المحسن: شاعر الأمراء وأمير...

أحمس الأول: طارد الهكسوس ومؤسس الدولة الحديثة في...

محمد عبد الكريم الخطابي: زعيم الريف الذي أذل...

الفنان ناصر القصبي: نجم الكوميديا السعودية وصوت المجتمع

عمار الشريعي: موسيقار التحدي وملحن القلوب

طارق بن زياد: فاتح الأندلس وصاحب الخطبة الخالدة

المقداد بن الأسود: من أوائل فرسان الإسلام وممن...

المعز لدين الله الفاطمي: أول خلفاء الفاطميين في...

ابن ماجد: الملاح العربي الذي أرشد البحّارة في...

سيرة ماجد المهندس من الهندسة إلى نجومية الطرب

ناصر القصبي ساخر السعودية الأول الذي فضح الواقع...

الحسن البصري: الزاهد الفقيه وناصح الخلفاء

البراء بن مالك: بطل فتوحات العراق وصاحب الدعاء...

الحسن بن علي: سبط النبي الذي أطفأ نار...
