الإمام الترمذي: جامع السنن وصاحب التصنيف المميز في الحديث

في تاريخ الحديث النبوي الشريف، تبرز أسماء حفرت أثرها في وجدان الأمة، وكان لها فضل كبير في نقل السنة وتوثيقها. من بين هؤلاء الأعلام. يبرز اسم الإمام الترمذي، ذلك العالم الدقيق، والمصنّف البارع. الذي جمع بين الرواية والتحقيق، وأهدى الأمة كتابًا لا يزال يقرأ ويدرّس بعد قرون من وفاته. تابع القراءة لتتعرف على مسيرته، وشيوخه، ومذهبه، وأشهر كتبه، وغير ذلك من الجوانب التي صنعت مكانته الفريدة في التاريخ الإسلامي.

 من هو الإمام الترمذي؟

يعد الإمام الترمذي أحد كبار أئمة الحديث الذين خدموا السنة النبوية وخلّدوا أثرهم فيها بعلمهم ودقتهم وجهادهم في طلب العلم. اسمه محمد بن عيسى بن سَوْرة الترمذي. ولد في مدينة ترمذ الواقعة في بلاد ما وراء النهر، وكان ذلك في بداية القرن الثالث الهجري.

نشأة الإمام الترمذي

وقد تميزت نشأة الإمام الترمذي بالحرص المبكر على طلب الحديث. فبدأ رحلته العلمية صغيرًا، متنقلاً بين بلاد خراسان، والعراق، والحجاز. ينهل من كبار المحدثين، ويكتب عنهم، ويقارن بين رواياتهم. كان متوقد الذكاء، قوي الحفظ، شديد الورع، حتى قال عنه بعض العلماء: “كان في زمانه كأنه ولد للحديث”.

سلك طريق التوثيق العلمي من أول عمره، وعرف بالدقة في النقل، والجمع بين الروايات، والموازنة بينها، حتى أصبح من أبرز من جمع السنن وصنّف فيها. وما إن اشتد عوده العلمي حتى صار مرجعًا للعلماء في بلده، يستفتى ويستشار.

برز الترمذي ليس فقط في رواية الحديث، بل أيضًا في تصنيفه وتنظيمه، فقد ألّف كتابه الشهير “الجامع”. الذي صار لاحقًا يعرف بـ”سنن الترمذي”، والذي تميز بأسلوبه الخاص في جمع الأحاديث مع بيان درجتها، وتوضيح أقوال العلماء فيها. [1]

تعرف أيضًا على: أم حرام بنت ملحان: شهيدة البحر وبشرت بالغزو في سبيل الله

من هو شيخ الترمذي؟

ارتبطت مسيرة الإمام الترمذي العلمية بعدد من كبار العلماء الذين كان لهم أثر عظيم في تشكيل منهجه الفقهي والحديثي، وقد حرص على ملازمة الشيوخ الثقات الذين جمعوا بين العلم والضبط، فنهل منهم وتعلم على أيديهم في شبابه.

ومن أبرز شيوخ الترمذي:

• الإمام البخاري، الذي كان له أثر عميق في نفس الترمذي، حيث تأثر به في أسلوب التصنيف، واعتبره قدوته، وقد روى عنه كثيرًا في “جامعه”.
• الإمام مسلم بن الحجاج، صاحب “صحيح مسلم”، وكان بينه وبين الترمذي علاقة علمية متينة قائمة على الاحترام والتبادل العلمي.
• قتيبة بن سعيد، أحد كبار المحدثين الذين اعتمد عليهم الترمذي في عدد من رواياته.
• أبو كريب محمد بن العلاء، وهو من شيوخ الحديث الذين أخذ عنهم الترمذي كثيرًا.
• العباس الدوري وهناد بن السري وأحمد بن منيع، وكلهم من الثقات الكبار الذين أسهموا في صقل شخصية الترمذي العلمية.

كان الترمذي يدوّن الأحاديث ويعرضها على شيوخه ليستوثق من صحتها، وكان كثير السفر في طلب الحديث، لا يهدأ له بال حتى يتحقق من الرواية سندًا ومتنًا. وهذا الحرص الشديد جعله في مصاف كبار المحدثين الذين وثّقهم العلماء واعتمدوا على كتبهم. [2]

تعرف أيضًا على: جعفر بن أبي طالب: طيّار الجنة وسفير الإسلام الأول

 من هو الإمام الحكيم الترمذي؟

يخطئ كثيرون حين يظنون أن الإمام الترمذي المعروف بجامع السنن هو نفسه الإمام الحكيم الترمذي، والحقيقة أن بينهما فرقًا واضحًا، رغم أن كلاهما من ترمذ، واشتهرا بالعلم والزهد. فالإمام الحكيم الترمذي هو أبو عبد الله محمد بن علي الترمذي، أحد أعلام القرن الثالث الهجري، وكان يعرف بالزاهد العارف، وله إسهامات كبيرة في التصوف والتفسير.

وقد وثقت ترجمة الإمام الترمذي سير أعلام النبلاء في جزء خاص، حيث تحدث الذهبي عن حياته وعلمه وزهده، وبيّن أنه كان عميق الفهم، صاحب فكر وروح، له آراء في الولاية والكرامات أثارت الجدل، حتى اتهم أحيانًا بالغلو، لكنه ظل موقرًا عند كثير من العلماء والزهاد.

من أبرز مؤلفاته

• ختم الأولياء
• نوادر الأصول
• الرعاية لحقوق الله
• البدء والإعادة

كانت شخصيته تميل إلى التأمل والروحانية، وعرف بكثرة التعبد والاعتزال، حتى قيل إنه كان لا ينام إلا قليلًا، ويمكث الليالي قائمًا بين يدي الله. لم يكن محدثًا بالمعنى التقليدي، بل كان حكيمًا متكلمًا، يرى العلم وسيلة للتزكية والنور لا مجرد نقل وحفظ.

تعرف أيضًا على: الزبير بن العوام: حواري الرسول وأول من سل سيفًا في الإسلام

 هل الترمذي شيعي؟

يكثر التساؤل في بعض الدوائر حول مذهب الترمذي، خاصةً مع وجود اختلافات بين رواة الحديث، ولكن من خلال تتبع مؤلفاته وكلام العلماء عنه، يتبيّن بوضوح أنه كان على مذهب أهل السنة والجماعة، ولم يعرف عنه ميل لأي من الفرق الخارجة عنها.

اعتمد الترمذي في جمعه للحديث على كبار علماء السنة، مثل البخاري ومسلم وأحمد بن حنبل، وكان دقيقًا في نقل الأحاديث المنتشرة بين أهل السنة، ويعرض عن الروايات الضعيفة أو تلك التي خالفت منهج السلف. كما أن كتبه لا تحتوي على أي تعصب مذهبي أو طعن في الصحابة، وهو من أبرز العلامات الفارقة التي تبعد عنه أي شبهة انتماء للشيعة.

أما عن أصله، فالسؤال الشائع:

هل الترمذي فارسي؟

والإجابة نعم، فقد ولد الإمام في مدينة “ترمذ” الواقعة في بلاد ما وراء النهر (في أوزبكستان الحالية)، وهي منطقة كانت تتحدث الفارسية في الغالب.

لكنه كان عربي اللسان، نشأ وتعلّم باللغة العربية، وألّف كتبه بها، كما أن ثقافته الدينية والحديثية كانت نابعة من البيئة السّنية الخالصة.

ومن أبرز ما يميز الإمام الترمذي كتابه العظيم الجامع الصحيح، المعروف بـ “سنن الترمذي”، والذي يعد من أهم كتب الحديث النبوي. وقد بلغ عدد أحاديث سنن الترمذي ما يزيد عن 3956 حديثًا، جمعها بدقة، وعلّق على كثير منها من حيث الصحة والضعف، مما جعله مرجعًا فريدًا للمحدثين والفقهاء على حد سواء.

لقد ترك لنا الترمذي إرثًا لا يقدَّر بثمن، وكان أثره حاضرًا في كل مجالس العلم التي تعاقبت بعده. فقدّم خدمة عظيمة للأمة بحسن تصنيفه، وتنبيهه على علل الحديث، وبيانه لدرجات الرواية. مما جعله مرجعًا موثوقًا في ميزان النقد الحديثي.

كما أن موقفه من القضايا العقدية، وتمسكه بمذهب أهل السنة والجماعة، وتوقيره للصحابة، وابتعاده عن الغلو والبدع. دلّ على فقهه الراسخ وفهمه العميق للدين. وعلى الرغم من أن أصله يعود إلى بلاد فارس. إلا أن لسانه وثقافته وتوجهه العلمي كانت عربية خالصة، وهذا ما يعكس وحدة الحضارة الإسلامية وتكاملها.

تعرف أيضًا على: عبد الرحمن بن عوف: تاجر الجنة وصاحب الصدقات العظيمة

ختامًا، فإن الحديث عن الإمام الترمذي ليس مجرد استعراض لسيرة عالم من علماء الحديث. بل هو استحضار لنموذج يحتذى في طلب العلم، والإخلاص في التدوين، والدقة في النقل، والاعتدال في المنهج. فقد استطاع أن يجمع بين الحفظ والفهم، وبين الأمانة العلمية والروح الزاهدة. فكان علمه مشعًّا عبر الأزمان، وكتابه “الجامع” مرجعًا محفوظًا في صدور أهل الحديث ومدارسه.

• islamicfinderBiography of Imam At-Tirmidhi -بتصرف
• britannicaAl-Tirmidhī | Hadith, Compilation, Sunan -بتصرف

مشاركة المقال

وسوم