النثر التجريبي: كيف يخرج الأدباء عن المألوف؟
عناصر الموضوع
1- كيف يخرج الأدباء عن المألوف؟
2- كيف يستفيد القارئ من قراءة النص الخارج عن المألوف
3- الخروج عن المألوف الادبي.
4- الخروج عن المألوف النقدي
يخيل لنا شكل تناول لتراتبيّة العصور المدروسة، وابتداءً من العصر الجاهليّ ووصولاً إلى تغريدات فيسبوكيّة شعريّة. وعند قراءته يظهر جرأة نقديّة تمكن من إعادة طرق أبواب نصوص الشعراء المشهورين طالما ردّدناها وحفظناها على ظهر قلب، ومنها تعود إلى عصورٍ قديمة تحتوي علي أسماء شعراء أفذاذ كالشنفرى وعمر بن أبي ربيعة وأبي نواس وغيرة، ومنها تعود إلى عصرِ الازدهار كجبران خليل جبران، ومنها إلى العصر الحديث كخليل حاوي ومحمود درويش.
1– كيف يخرج الأدباء عن المألوف؟
إن هذه النصوص لطالما كانت من قبل بعض النقّاد واجترّتها بطونُ الكتب في ضيق مساحة الاكتشاف الصغيرة، وتناولتْه دراسات لا تحص ولا تعدّ، ومناهج مختلفة واتجاهات كثيرة، فمعظم القراءات أصبحت تتداخل مع نفسها في مكان مقفل الآفاق فهو أشبه بإطارٍ يدور بما فيه حول نفسه.
ولكن بالطبع، لم تكن عمليّة سهلة أن تعود وتوضع تحت مجهر جديد جدا فينجح في كشف ما لم تبيّنه دراسات سابقة، ويأخذنا إلى رؤى نقديّة جديدة، نشهد معها أنّ نظريّة التلقّي تبقى ولّادة في تربة إبداعيّة عظيمة.
أمّا من طريقة الأسلوب واللغة، فناهيك بالقيمة العلميّة والنقديّة الإبداعيّة التي تحتوي الكتاب، إلا أنّه يتّسم بسلاسة اللغة وبراعة التعبير، ويصبح سهلٍ ممتنع وممتع في آن. ويدخل عالمَ النقد الأدبيّ يعرف كمّية الكتب التي سرعان ما أصبحنا قراءتها بسبب تعقيد لغتها وجمود تعابيرها برغم ما تحمل من قيمة معرفيّة وعلميّة عالية جدا، فيميّز أسلوب نسر أنّه يُشعرِن بنقد، فيبرع في توظيف التشابيه ومقاربة الموضوعات بطريقة مبتكرة، فنستشعر روح الشاعر الذي تلبس جسد الناقد وتضفي على نقده سموّها الإبداعيّ، فيخرق ضبابيّة النقد في تحليقٍ رؤيويّ عالٍ.
2- كيف يستفيد القارئ من قراءة النص الخارج عن المألوف
وعلي نسر عرفَ كيف يستفيد قارئه، حتّى ولو كان هذا القارئ ابن اختصاص ولديه الإحاطة الكافية لما قد تتضمّنه المعلومات، وخصوصاً التمهيدات التي تسبق أيّ تحليل، فالقارئ، ولو تفلّت من شبكة المعلومة، إلا أنّه لم يستطع أن يتفلّت من شبكة الأسلوب، فيقع رهين الدهشة والجمال.[1]
ويوجد في الكتاب مقدمة، وثمانية فصول ومُلحقاً وخاتمة. وتناولت الدراسة في الفصل الأوّل لامية العرب كأنموذج عظيم للعصر الجاهليّ، وتوصّلت إلى أنّ هذه القصيدة تأتي بما هو جديد عن قصائد عصرها لتقدّيم الاغتراب النفسيّ والاجتماعيّ، ما لم يكن طبيعي في عصر رفع فيه صوت الجماعة ليخفت فيه الصوت الذاتيّ للشاعر، في حين لقد عرفت قصائد العصر بالوقوف على الأطلال لتضفي دلالة ماديّة للمكان، فخرج لشنفرى هذا السائد ليذهب ما وراء المكانيّة الماديّة ويقدّم ذاتيّة في الاغتراب من نوعٍ ثاني.
أمّا الفصل الثاني، فقارب قصيدة متمّم بِنا لنويرة في رثاء أخيه. وقد اختار الناقد هذه القصيدة لكونها قدّمت الرثاء بأسلوبيّة مغايرة وموضوعات جديدة، رأى فيها توليداً للشعريّة وخرقاً لنمطيّة الرثاء البكّاء المتداول بوصف الفقيد وتعداد مزاياه.
وفي الفصل الثالث، دار أيضاً الدراسة في القصيدة الأمويّة “وهل يخفى القمر” لعمر بن أبي ربيعة مقارنة مع قصيدة لإمرئ القيس. وقد قدّم التحليل قراءة جديدة جديرة بالإعجاب لأنّها تجاوزت التكرار وتقدّم غيرها من الدراسات الكثيرة، فوضحت شعريّة خرق الموضوعات بواسطة مجهر نسر عبر دعوة عمر بن أبي ربيعة إلى تحرّر المرأة، وهذه طبيعي لم يكن موضوعاً مألوفاً لذلك، ولا هو مقبول كقضيّة في مجتمع كان لا يقبل صوت المرأة ويمنع عنها متنفّسات الحياة الطبيعية، فشكّلت الدراسة للقارئ دهشة اكتشاف أنّ هذه الدعوة التحرّريّة فسبقت دعوة شعراء النهضة، كما هو طبيعي.
ولم يكن الفصل الرابع بعيداً عن الفصل الثالث، فكان نصيب الدراسة لقصيدة شهيرة لأبي نواس، رأى الناقد بإجراء أنّ امرأة أبي نواس هي الأخرى تعيش صراعات تحرّريّة، أبدعَ الشاعر في توظيفها ضمن معنى ظاهر بوصف فنّيّ جماليّ مدهش لجسد المرأة ومفاتنها، فحلّلها الناقد نسر تحليلاً نفسيّاً أدبيّاً ليكشف المعنى المبطّن الذي لم يسبق أن كشفه أحدٌ من النقاد، فرأى أنّها أبعد من أن تكون قصيدة تغزّل بالمعنى المكشوف للجسد، بل محاولة لخرقٍ حياتيّ وذلك أن تطلّعات تغييريّة مطالبة بتحريرِ المرأة، والكشف عن متطلّباتها وهواجسها.
أمّا في الفصل الخامس، فجاء الاختيار لموشّحة “جادك الغيث” للسان الدين بن الخطيب التي تحمل موضوع الحنين إلى الأندلس بعد الخروج منها، وتقابلها بالمقارنة قصيدة قديمة لعبد الرحمن الداخل لتحاكي الحنين إلى الشرق بعد مغادرته القسريّة إلى الأندلس، فظهر أنّ قصيدة الموشّحة كفيفة الرؤى أنها فارغة المضمون، لتّتجه نحو الزخرفة الفنيّة الشكليّة تأثّراً بالطبيعة. ولكن قصيدة الداخل، فأخذت منا نخلة رمزاً توظيفيّاً منحه مادة للمتاهي وساهم في توليد رؤيته، فتفوّقت شعرياً.
أمّا الفصل السادس، فظهرت قصيدة المواكب لجبران خليل جبران، التي ظهرت فيها النزعة التحرّريّة والحركة التجديديّة الي كان شعراء المهجر ينادون بها، فقد نجحت قصيدة المواكب بتداخل بنيتها بين العموديّ والتفعيلة في أن تظهر مقارنة حياتيّة وفنيّة شعريّة بين الواقع الفعليّ والوعي المُمكن، فأحدثت ثورة تغيريّة على مختلف الصعد. [2]
ولكن أتى دور القصيدة الحديثة، فاختار الناقد ثلاث قصائد لخليل حاوي، ليبيّن أنّ قصيدة التفعيلة أخذت مكانها الوسطيّ بين قصيدة البحر وقصيدة النثر، لنجدها تخرج عن مألوفها سابقتها، ولا تخرج عليها، كما فعلت قصيدة النثر، هذا من ناحية. ولكن من ناحية أخرى، تلاءمت وسطياته مع طرحها الوظيفة المرجعيّة التي تنادي من خلالها بتجديد الواقع وتطويره، وبتحرّر ذاتيّ يراه حاوي ضرورة للنهوض العربيّ.
أمّا الفصل الأخير، فقد ضمّ قراءات نقديّة لمجموعة من دواوين شعراء معاصرين أغلبها قصائد نثريّة، إضافة إلى نموذجين من تغريدات فيسبوكيّة شعريّة متغايرَين في الشكل والرؤى.
وقد سوّغ ذلك الناقد بأنّ العصر الحالي يعجّ بالاختلاف، وكان لا بدّ من إفراد نموذجات متنوّعة لمحاولة الإضاءة الوافية على الأنواع الشعريّة، وربّما أراد باستعراض ذلك أن يشير للقارئ بطريقة غير قاصدًا إلى أنّ هذا العصر شهد أكبر اتساع لدائرة الفوضى الأدبيّة أو الطفرة الشعريّة، في ظلّ الافتقار إلى كصابح المعايير، فاختلط الحابل بالنابل، ليهبّ الرخيص ويدبّ النفيس.
جاءت تلك الضديّات منسجمة مع قضايا شغلت أغلبيّة الشعراء المدروسين، ألا وهي القلق والخوف، والصراع بين الشكّ واليقين، والثابت والمتحوّل، وهذا يدلّ على تخبّط يعيشه الشاعر المعاصر في ظلّ التناقضات الحياتيّة الفكريّة الاجتماعيّة من جهة، والفنيّة الشعريّة ومساراتها من جهة أخرى.
لكنّ المفارقة التي أتى بها هذا الفصل لم تقتصر على ذلك فحسب، بل بدراسة مجموعات شعريّة كاملة، بدلاً من تحديد قصيدة لكلّ شاعر، فكان لا بدّ من انتخاب بعض الجمل الشعريّة أو الأبيات ومقاربتها تحت عناوين معيّنة، لنلاحظ أنّ اللغة عند علي نسر تغيّرت نوعاً ما، لتّتسم بالتكثيف والقفز والتداخل أحياناً، وهذا ما جعلها تبتعد قليلاً عن السلاسة والوضوح، لتقترب من الترميز أحياناً أخرى.[3]
3- الخروج عن المألوف الأدبي
النقد الأدبيّ ليس مادّة سهلة كما يتصوّرها البعض من منتحليها أو المتطفّلين عليها، بل هي مادّة تتطلّب ناقداً ملمّاً بالأكاديميّة العلميّة والمنهجيّة، متمكّناً من لغته متسلّحاً بثقافته، ضليعاً في اكتشاف المساحات البكر في جنائن نصيّة تترقّب مَن يسقي ذبولها أو مَن يقتطف ثمارها.
وفي ذهني، إنّ الناقد يستطيع أن يضفي على مادته ما يغني صورتها ويعمّق معناها ويفتح اشد اكتشافها أثناء نظريّة التلقي التي تتلاحق مع عنصر الإبداع النقديّ، لكسب رؤى تجديديّة في عالم النقد، فتوضح بتلك قدرة الناقد على التمكّن من أدواته العلميّة من جهة، وأسلوبيه في إعادة تدويرٍ ابتكاريّ مدروس لنظريّات نقديّة صلبة من جهة أخرى.
4- الخروج عن المألوف النقدي
الخروج عن المألوف النقديّ عند الدكتور علي نسر لم يكن خروجاً واضحا، بل تعمّد ذلك عن سابق إصرار وتصميم. ولخروجٍ مدروسٍ وآمن، سوّغ خرقه – على مستوى عدم الالتزام بالمنهج الواحد – في المقدّمة متّكئاً على بعض الاقتباسات والنظريّات التي تدعم رأيه، أنّ المنهج قد يقتل النصّ أحياناً، ويفرض إثبات النظريّة، فمن المعلوم طبعاً أنّ لكلّ منهج خاصيّة تهتمّ بجانبٍ معيّن من النصّ وتهمل جوانب أخرى، لكنّها لا تفرض على النصّ إثبات ما ليس فيه، والفرضيّات دائماً تكون مفتوحة، فلم يلتزم بذلك، وأشار إلى اعتماده على عدّة مناهج سياقيّة ، فوظّفها أحياناً في النصّ الواحد، ومن المعلوم أنّ العِلاقة غالباً ما تكون تنافريه بين ما خارجيّ وما هو داخليّ، فوضعَ النصوص بذلك تحت مجهر حرّ ينتقي من مناهج معيّنة ما يراه يخدم نظريّته ، لنرى الخروج من رحم هذه المناهج يتجلّى خاصّة في الفصل الأخير من الدراسة.
ومن الغريب أنّه ناقض رأيه في الملحق الذي أفرده في آخر الكتاب، ليعود من تحليقه الحرّ ويحطّ على أرضِ المنهج الثابتة، فاعتمد المنهج البنيويّ التكوينيّ لمقاربة نصّين؛ الأوّل لخليل حاوي والآخر لمحمود درويش، معبّراً عن ذلك بأنّ الفصول المدروسة سابقاً “أشبه بنتف مبعثرة آن أوان جمع شملها ضمن قالب واحد”، فنلاحظ منهجيّة الدراسة تتأرجح بين ظهرت المنهج حيناً والتخلّي عنه أحياناً أخرى، ممسكاً بعدّة النقد، شاهراً ثقافته الأكاديميّة بخرقٍ ذي حدّين، فلم يخرج خروجاً كاملاً على تلك المناهج، بل حملها في يد، وفي اليد الأخرى مارس عمليّة الخرق للوصول إلى مبتغاه دون خسائر. [4]
وإنّ الدخول بعمق في هذا الموضوع يتطلّب تناول الكتاب في ضوء المنهج المعرفيّ في طريق ما يُعرف بنقد النقد، لكي نضع هذه القراءات تحت المقاربة والكشف التفصيليّ، وهذا ما لم يتّسع فيه هذا المقال.
ونلاحظ في تناوله في بعض النصوص من خلال التحليل النفسيّ الأدبيّ تنجيته حياة الكاتب بشكل مكتمل مسوّغاً ذلك في المقدّمة، وهذا ما لم يتوافق مع المنهج النفسيّ الأدبيّ الذي يرى من حياة الكاتب مرآة عاكسة على نصوصه الإبداعيّة وأهميّتها ، فلم يلتزم في التحليل الا بالإجراءات الفردية التي تنطلق من حياة الكاتب إلى النصّ، ولا حتّى وفق إجراءات شارا موزون المنطلقة من النصّ إلى حياة الكاتب.
المراجع
- "مقدمة ابن خلدون"، مكتبة نور، اطّلع عليه بتاريخ 29/12/2021. كيف يستفيد القارئ من قراءة النص الخارج عن المألوف -بتصرّف
- كتاب رسالة الغفران لأبي العلاء المعري"، مكتبة نور، اطّلع عليه بتاريخ 29/12/2021. كيف يستفيد القارئ من قراءة النص الخارج عن المألوف -بتصرّف.
- "كتاب الأصمعيات"، المكتبة الشاملة، اطّلع عليه بتاريخ 30/5/2022. كيف يستفيد القارئ من قراءة النص الخارج عن المألوف- بتصرّف.
- "كتاب البيان والتبيين"، مكتبة نور، اطّلع عليه بتاريخ 29/12/2021.الخروج عن المألوف النقدي -بتصرّف.