ديفيد هيوم بين العقل والتجربة في نظرية المعرفة

ديفيد هيوم يعد من أبرز الفلاسفة الذين غيروا مسار الفلسفة الحديثة بنظرته النقدية التي تربط العقل بالتجربة. هذه النظرية التي انتهجها تجعله من دعاة التجريبية، حيث يرى أن المعرفة تبدأ من الحواس والتجربة ومن ثم يعالجها العقل، وليس العكس.

ما هي نظرية ديفيد هيوم؟

نظرية المعرفة عند ديفيد هيوم تقوم على أساس التجربة الحسية والعقل محدود بقدرته على معالجة ما تقدمه الحواس، دون أن تكون المعرفة عن عالم خارجي مطلق متاح للعقل مباشرة. الفكرة الأساسية هي أن كل فكرة بسيطة تنبع أولًا من انطباع Simple Impression في الحواس، ثم العقل يعيد إنتاج هذه الانطباعات في الأفكار (ideas). دون تجربة، لا توجد فكرة أصلية في العقل، وكل ما نصبو إليه من مفاهيم مجردة أو علاقات سببية ينشأ عبر الخبرة.

عناصر النظرية الأساسية:

• الانطباع والفكرة: الانطباع هو ما تأخذه الحواس مباشرة أو المشاعر، وهو قوي، حي، فعال في النفس. الفكرة هي ما يعقب ذلك، تمثيل له في العقل، أقل وضوحاً وأقل حرارة.
• العلاقات بين الأفكار: هيوم يشرح أن الأفكار تتصل ببعضها بواسطة تشبيه (semblance)، تلاصق زمني أو مكاني (contiguity)، وعلاقة السبب والنتيجة (cause and effect).
• المعرفة كتجربة: ما نعرفه من الحقائق المتعلقة بالواقع الخارجي — مثل أن النار تحرق، أن البلسم يطير، أن الشمس تشرق — كل هذا يعتمد على التجربة الماضية وليس على براهين عقلية بحتة. العقل لا يمتلك فكرة عن الضرورة الحتمية في الأمور الخارجية إلا أنه متعود (habit) أن يتوقع تكرار التجربة بنفس الطريقة.
• العلم والعلاقات البديهية: هناك ما يسميه هيوم “علاقات الأفكار” (relations of ideas) وهي تلك التي عقلية بحتة (مثل الرياضيات أو المنطق)، لا تحتاج تجربة فعلية لمعرفة أنها صحيحة. مقابل “مسائل الواقع” (matters of fact) التي لا يمكن معرفتها إلا عن طريق الحواس والتجربة.

هيوم لم يكتف بالنظرية، بل نشرها في عدة كتب ديفيد هيوم، أهمها A Treatise of Human Nature و An Enquiry Concerning Human Understanding.  [1]

تعرف أيضًا على: هوميروس: شاعر الإلياذة والأوديسة

أقوال ديفيد هيوم عن الحواس

أ. مبدأ الحواس والتجربة

هيوم يرى أن المعرفة تبدأ بالحواس، أي بالانطباعات الأولى (“impressions”)، التي تأتي من رؤيتنا، سمعنا، لمساتنا، الذوق، الشم، أو حتى الانطباعات النفسية كالحزن أو الفرح. هذه الانطباعات هي الأقوى والأكثر حيوية في النفس. ومن ثم تأتي الأفكار (“ideas”) التي هي نسخ أقل وضوحًا في العقل لتلك الانطباعات.

لكنه لا يعني أن الحواس موثوقة بالكامل:

“The senses alone are not implicitly to be depended on. We must correct their evidence by reason, and by considerations, derived from the nature of the medium, the distance of the object, and the disposition of the organ, in order to render them, within their sphere, the proper criteria of truth and falsehood.”
هنا يشير إلى أن الحواس تحتاج إلى دعم بالعقل، وأن هناك عوامل قد تشوش الحواس مثل المسافة أو طبيعة الوسط أو حالة العضو الحسي نفسه.

ب. كيف يرى هيوم الذات من خلال الحواس

يقول هيوم في كتابه A Treatise of Human Nature إن الذات ليست شيء ثابت ومستقل، وإنما هي “حزمة” (bundle) من التصورات perceptions التي تأتي من الحواس وتغير وتتتابع بسرعة. لا يمكن أن نلتقط الذات ككيان ثابت بدون تصورات من الحواس.

كما يقول:

“The mind is a kind of theatre, where several perceptions successively make their appearance; pass, re-pass, glide away, and mingle in an infinite variety of postures and situations.”

هذه الصورة المسرحية تمثل كيف أن الحواس والإحساس الداخلي تتفاعلان لتشكيل ما نعتبره “أنا”.

تعرف أيضًا على: جون لوك: من التجربة الحسية إلى العقد الاجتماعي

من هو ديفيد هيوم؟

ديفيد هيوم فليس فيلسوفاً مجرد رأيـ شفوي، بل شخصية تاريخية عميقة التأثير. ولد في إدنبرة باسكتلندا سنة 1711 وتوفي فيها سنة 1776.

أ. النشأة والتعليم والمسار الفكري

• ولد في عائلة متوسطة الحال، أحد أبنائه كان له دخل محدود، لكن والدته كانت تهتم بتربيتهم وتعليمهم، وهذا ساعده من صغره على حب القراءة والاستكشاف.
• التحق بجامعة إدنبرة في سن صغيرة، حوالي 12 سنة، ودرس هناك لفترة، لكنه لم يكمل في دراسة القانون رغم أن الأهل كانوا يرون ذلك. بدلاً من ذلك، انغمس في القراءة الفلسفية، الأدب، والتاريخ.
• في شبابه، واجه أزمة نفسية (أو انهيار عصبي) بسبب الضغط الفكري والتوتر، وقد سافر بعدها إلى فرنسا وبعض الأماكن الأخرى للتعافي والكتابة.

ب. المنجزات الأدبية والفكرية

• من أهم كتب ديفيد هيوم هي A Treatise of Human Nature التي كتبها في شبابه. لكن استقبالها في البداية كان ضعيفاً.
• بعد ذلك عاد وصاغ بعض مقاطعها في An Enquiry Concerning Human Understanding و Enquiry Concerning the Principles of Morals. هذه الكتب كانت أكثر نضجًا وفهمًا وعبرت عن فكره الناضج.
• أيضاً كتب History of England و Essays, Moral and Political و Political Discourses. وهي أعمال بين الفلسفة والتاريخ والسياسة. [2]

ماذا قال ديفيد هيوم عند موته؟

أ. حالته الأخيرة

• توفي هيوم في إدنبره بعد مرض طويل، عن عمر 65 عامًا.
• في أيامه الأخيرة، كان هادئًا جدًا، لم يعبر عن خوف من الموت، ولم يبد أي ندم ظاهر على أفكاره أو مواقفه.

تعرف أيضًا على: غاليليو غاليلي: أبو الفيزياء الحديثة

ب. بعض ما ورد من أقواله وموقفه من الموت

من سيرته الذاتية My Own Life كتب أنه رغم تدهور صحته البدنية. كان يحتفظ بنفس الحماس للدراسة ونفس البهجة بالصحبة.

قال أيضًا:

“I am dying as fast as my enemies, if I have any, could wish, and as easily and cheerfully as my best friends could desire.”

هذا التعبير يظهر شجاعة وسكينة، وقبولًا للفناء، دون مقاومة مفرطة أو تأثر نفسي عميق بالخوف.

وعندما سئل حول البقاء بعد الموت، رفض فكرة الخلود قائلاً إن وجوده في العالم بعد الموت فكرة غير معقولة بدرجة كبيرة.

في ختام هذا المقال، نكون قد استعرضنا كيف أن ديفيد هيوم شكل نظرية المعرفة من خلال ربط العقل بالتجربة، وبينا أقواله عن الحواس ودورها الحيوي في بناء المعرفة، تعرفنا على حياته وأعماله، وكذلك على حالته عند الموت وما قيل في أيامه الأخيرة.

تظهر صورة هيوم كشخص عاش مؤمنًا بضرورة التجربة والحواس كمنابع أولى للمعرفة، لكنه أيضًا لم يغلق العقل في وجهها، بل جعله أداة تنظيم وتأمل بعد الحس؛ كما أن حياته ومماته أظهرا انسجامًا بين فكره وسلوكه، حتى النهاية. النظرية التي قد تبدو صارمة في موقفها من المبادئ الميتافيزيقية، تحمل بين سطورها قبولًا للإنسان بكل ضعفه، وقيمة الأخلاق، والود مع الآخرين، والرضى ما أمكن، حتى عند الاقتراب من الرحيل. كلها عناصر تجعل ديفيد هيوم ليس مجرد فيلسوف، بل إنسانًا عميق التفكير، حريصًا على الصدق مع نفسه ومع القراء من بعده.

الأسئلة الشائعة

س: من هو ديفيد هيوم وما هي أهم أعماله؟

ج: ديفيد هيوم (1711–1776) هو فيلسوف إسكتلندي يعتبر من أبرز المفكرين في الفلسفة الحديثة. من أهم أعماله: A Treatise of Human Nature و An Enquiry Concerning Human Understanding. حيث تناول فيهما موضوعات مثل طبيعة المعرفة والسببية والهوية الشخصية.

تعرف أيضًا على: كارل ماركس: فيلسوف ألماني ومؤسس النظرية الشيوعية

س: كيف يعرف هيوم المعرفة؟

ج: يميز هيوم بين نوعين من الإدراكات: الانطباعات (Impressions) والأفكار (Ideas). الانطباعات هي الإدراكات المباشرة والحية. بينما الأفكار هي النسخ الباهتة لهذه الانطباعات في العقل.

س: كيف يرى هيوم مفهوم “الهوية الشخصية”؟

ج: يرى هيوم أن الهوية الشخصية ليست ثابتة أو جوهرية. بل هي مجرد “حزمة” من الانطباعات والأفكار المرتبطة ببعضها البعض.

س: ما هو دور الحواس في نظرية المعرفة عند هيوم؟

ج: يعتبر هيوم أن الحواس هي المصدر الأولي لجميع معارفنا. حيث تنتج الانطباعات التي تكون الأفكار في العقل.

س: ما هو مبدأ النسخ في نظرية المعرفة عند هيوم؟

ج: يشير مبدأ النسخ إلى أن كل فكرة في العقل هي نسخة باهتة من انطباع حسي سابق. بالتالي يعني أن الأفكار لا يمكن أن تكون موجودة بدون وجود انطباعات سابقة.

س: ما هو موقف هيوم من مفهوم السببية؟

ج: يرى هيوم أن السببية ليست معرفة عقلية أو بديهية. بل هي مجرد عادة ذهنية نكتسبها من تكرار الأحداث ولا يمكننا التأكد من وجود علاقة سببية حقيقية بين الأحداث.

س: هل هناك معلومات عن مواقف هيوم في أيامه الأخيرة؟

ج: في أيامه الأخيرة، كان هيوم هادئًا ومطمئنًا ولم يظهر خوفًا من الموت. بل كان يظهر قبولًا ورضًا عن حياته وأفكاره.

تعرف أيضًا على: عبد الفتاح كيليطو وسحر اللغة حين يصبح النقد حكاية

س: كيف أثر هيوم على الفلسفة الحديثة؟

ج: أثر هيوم بشكل كبير على الفلسفة الحديثة خاصة في مجالات نظرية المعرفة والأخلاق والهوية الشخصية. حيث تحدى العديد من المفاهيم التقليدية وأثار تساؤلات عميقة حول طبيعة المعرفة والوجود.

• Plato stanford David Hume - بتصرف
• Britannica David Hume in epistemology in The history of epistemology _ بتصرف

مشاركة المقال

وسوم