محمود درويش حين يتحوّل الشعر إلى وطن داخلي

محمود درويش حين يتحوّل الشعر إلى وطن داخلي يجسد أروع ما يمكن أن تحققه الكلمة من قوة وتأثير في النفس البشرية. فهذا الشاعر الفلسطيني العظيم لم يكن مجرد كاتب ينظم الأبيات، بل كان معماراً للروح يبني بكلماته جسوراً من الأمل فوق أنهار الحزن والغربة. عندما فقد الوطن الجغرافي، خلق لنفسه وطناً من الحروف والمعاني، وطناً لا تستطيع القوة أن تهدمه ولا الزمن أن يمحوه. في شعره، تحولت فلسطين من مجرد خريطة على الأرض إلى خريطة في القلب، ومن مكان يسكن إلى حالة تعاش.

من هو محمود درويش؟

محمود درويش هو اسم لا يمكن فصله عن الوجدان الفلسطيني والعربي، فهو الشاعر الذي ارتقى بالكلمة إلى مصاف المعجزة، وجعل من الشعر بياناً سياسياً، وعاطفياً، وإنسانياً. وُلد في 13 مارس 1941 في قرية البروة في الجليل الفلسطيني، التي دمرتها القوات الصهيونية عام 1948، فكانت النكبة أول جرح عميق في قلب الطفل الشاعر.

ترعرع في مخيمات اللجوء، ليعيش أولى صدماته مع التهجير والنفي، وهو ما تجلى لاحقًا في قصائده، وخاصة في نصوصه التي تتحدث عن الوطن ككائن حي، وعن الأرض كأمٍ تنتزع من حضن ابنها. كتب الشعر مبكراً، ونُشرت أولى دواوينه وهو في السادسة عشرة من عمره، مما مهد له الطريق ليصبح صوتاً قومياً وشخصية محورية في الثقافة العربية.

وقد تركت هذه الرحلات أثراً عميقًا في قصائده عن الحب والمنفى، فجعل من الحب وسيلة للحفاظ على الهوية، ومن اللغة جسراً نحو الحرية.

وإلى جانب الشعر، عمل في الصحافة والسياسة، وكان عضواً في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لكنه استقال لاحقًا ليتفرغ للكتابة، التي اعتبرها سلاحه الحقيقي. هكذا، أصبحت كتب محمود درويش مرجعاً شعرياً وفكرياً للعرب.

تعرف أيضًا على: ابن رشد يرد على الزمن: عقلٌ لا يخشى السؤال

نشأة محمود درويش

نشأ محمود درويش في كنف أسرة فلسطينية بسيطة تعمل في الزراعة، وكانت قريته البروة تمثل له رمزية الوطن الأول. .

هذه النشأة المضطربة بين الطفولة الهادئة والشتات المبكر كوّنت الهوية الشعرية والسياسية التي ميّزته طوال حياته. التحق بالمدرسة في قرية دير الأسد، ثم أكمل تعليمه الثانوي في كفر ياسيف، حيث بدأ يكتب الشعر متأثراً بالكلاسيكيات العربية والآداب الأجنبية التي ترجمها لاحقاً.

في تلك المرحلة، انطلقت قصائده الأولى التي كانت تحمل وعيًا وطنيًا مبكرًا، ومنها قصيدته الشهيرة “بطاقة هوية”، التي يقول فيها: سجّل! أنا عربي… ورقم بطاقتي خمسون ألف. هذه القصيدة وحدها كانت كفيلة بأن تجعل منه صوتاً وطنياً مميزاً، ودفع ثمنها اعتقالاً وتعتيماً إعلاميًا من سلطات الاحتلال.

النشأة بين الحرمان والانتماء جعلت من حياته حكاية ممتدة من الاغتراب نحو البحث عن الذات، وقد ساهمت في صياغة لغته الشعرية الفريدة، التي تزاوج بين الحداثة والتراث. كما انعكست هذه النشأة في قصائد محمود درويش عن الحب، حيث تتداخل الأنثى مع الأرض، ويصبح الحبيب هو الوطن.

وقد أشار النقاد والمثقفون، من العرب والغربيين. إلى أن هذه الخلفية الثقافية والوجدانية جعلت كتب محمود درويش مادة أساسية في الدراسات الأدبية حول الشرق الأوسط، خاصة لدى أسماء مثل إدوارد سعيد وJudith Butler. [1]

تعرف أيضًا على: إحسان عبد القدوس ورواياته التي فتحت أبواب الجرأة الاجتماعية

من أجمل ما قال محمود درويش؟

عرف محمود درويش بأسلوبه الشعري العذب والعميق. والذي يدخل القارئ في عوالم من التأملات الفلسفية، والانفعالات العاطفية، والانتماءات الوطنية. وضمن هذا العالم الشعري. ظهرت قصائده كملاذ روحي وعاطفي، ومتنفس شعري بعيدًا عن قسوة السياسة.

من أجمل ما قاله في الحب:

• أحبك أكثر.. من نفسي التي بين يديّ.
• سنكون يوماً ما نريد.
• لا شيء يعجبني.. لا الراديو، ولا صياح الديكة.

أما في توصيفه لفلسطين، فقد قال:

• وطني ليس حقيبة.. وأنا لست مسافر.
• فكّر بغيرك.. أنت حين تنام وتحلم بآخرين لا يملكون وسادة.
• نحن نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا.

تعكس هذه العبارات كيف أصبحت كتبه منبعاً للتأمل في الذات والآخر. في الوطن والمنفى، في الحب والفقد. إن قصائد محمود درويش ليست فقط شعراً يلقى، بل وعيًا يزرع.

النقّاد العالميون مثل Harold Bloom وBarbara Harlow صنفوه ضمن أعظم شعراء القرن العشرين. معتبرين أن أعماله توازي في عمقها أعمال بابلو نيرودا وأدونيس. خاصة حين نقرأها من منظور الشعوب التي تكافح من أجل هويتها.

ولا يمكن فصل هذه العبارات الخالدة عن حياة محمود درويش. حيث جاءت هذه الكلمات من قلب تجارب حقيقية مع المنفى، والاعتقال. والحب الذي لا يمكن له أن ينفصل عن الهم العام. وقد انعكس ذلك في سبب وفاة محمود درويش أيضًا. إذ توفي بعد معاناة مع المرض، تاركاً وراءه كلمات لا تموت. [2]

تعرف أيضًا على: ابن خفاجة يرسم الطبيعة شاعر الأندلس الذي نَطقت به الأشجار

ما هي أشهر قصائده؟

من بين مئات القصائد التي كتبها محمود درويش، تعد “أحن إلى خبز أمي” أشهر قصائده على الإطلاق. وقد غنّاها الفنان اللبناني مارسيل خليفة، فتحولت إلى نشيد وجداني عند كل عربي اشتاق إلى وطنه أو فقد أمه.

قصائد محمود درويش كثيرة، ولكن من بين الأشهر على الإطلاق:

• أحن إلى خبز أمي: ترجمت إلى أكثر من 15 لغة، وتدرّس في العديد من الجامعات حول العالم.
• جدارية: كتبها بعد تجربته مع المرض، وتعد من أعظم ما كتب في الشعر العربي المعاصر.
• بطاقة هوية: أيقونة الشعر المقاوم.
• لا شيء يعجبني: تناول فيها فلسفة الموت والحياة بطريقة ساخرة وعميقة.
• عن إنسان: قصيدة رمزية تناول فيها تجريد الإنسان من أرضه وحقوقه.

تعد قصائد محمود درويش عن الحب جزءًا من شهرة هذه الأعمال. فقد استطاع أن يزاوج بين حب الوطن وحب المرأة بشكل يصعب فصله. حتى قال مرة: “أحببتها كما أحب الوطن، وخنتها كما يخون الوطن أبناءه”.

وقد ضمّن كتب محمود درويش مثل “ورد أقل”، و”لماذا تركت الحصان وحيداً”.و”في حضرة الغياب” هذه القصائد التي لا تزال تطبع وتترجم حتى اليوم.

يؤكد الباحث الأمريكي Edward Said أن درويش “لم يكن فقط شاعر مقاومة. بل شاعر إنسانية تتخطى الجغرافيا”. وهو ما جعل سبب وفاته لحظة حداد ثقافي عالمي، وليست عربية فقط.

تعرف أيضًا على: الشريف الرضي ومجد البيت شاعرٌ من نسل الحبر والكلمة

في الختام، يبقى محمود درويش حين يتحوّل الشعر إلى وطن داخلي مثالاً حياً على قدرة الإنسان على تحويل الألم إلى جمال والخسارة إلى إبداع. استطاع هذا الشاعر الاستثنائي أن يحول تجربة الاقتلاع والنفي إلى ملحمة شعرية خالدة. وأن يجعل من اللغة العربية بيتاً دافئاً يأوي إليه كلما اشتد به الحنين. لقد علمنا درويش أن الوطن الحقيقي ليس مجرد حدود جغرافية. بل هو ذاكرة تنبض وحلم يتجدد وكلمات تحمل عبق التراب والياسمين. وهكذا، خلد اسمه كشاعر الحب والمقاومة. الذي حول المنفى إلى منصة للإبداع والشعر إلى وطن لا يفقد أبداً.

• alternativeradioMahmoud Darwish's early life _بتصرف
• go.gale.comWhat are the most beautiful things Mahmoud Darwish said? _ بتصرف

مشاركة المقال

وسوم