بشار بن برد وجرأة المعنى: شاعر الضد والاختلاف

بشار بن برد، من هو هذا الشاعر الذي أثار الجدل في حياته وبعد مماته؟ شاعر أعمى، لكنه رأى بحدّة أكثر مما يرى المبصرون، وظّف الشعر ليكسر الأعراف، ويكشف التناقضات، ويعبّر عن رؤية خاصة للعالم. هو شاعر لا يصنّف بسهولة، فقد جمع بين الهجاء والغزل، بين الفلسفة واللعب، بين التمرّد والبلاغة. في هذا المقال، نستعرض سيرة بشار بن برد، ونتناول الجوانب المثيرة في شخصيته وشعره: هل كان زاهدًا أم مستهزئًا؟ ما قصته الخاصة مع زوجته؟ وما هي أبرز ملامح شعره؟ سنتناول هذه المحاور بتفصيل ينير ملامح الشاعر الذي قال يومًا: “إذا ما غضبت فإني سريع”.
من هو بشار بن برد؟
ولد بشار بن برد في أواخر العصر الأموي، ونشأ في مطلع الدولة العباسية، وكان من أوائل الشعراء الذين مثّلوا هذا التحوّل الزمني والسياسي الكبير. ولِد أعمى، وقيل إنه ولد ضريرًا أو أصيب بالعمى في صغره، لكنه امتلك بصيرة لغوية نافذة، وحسًا ساخرًا دفعه إلى تحدي التقاليد الاجتماعية.
تعرف أيضًا على: أدونيس والتجريب الشعري في تجديد القصيدة العربية
كان من أصول فارسية، ولد في مدينة البصرة عام 96 هـ تقريبًا، وكان عبدًا في بداية حياته، ثم أعتق وتفرّغ للشعر والأدب، وارتبط اسمه بجماعة الشعوبيين الذين تبنّوا فكرة تفوّق الفرس ثقافيًا على العرب، وهو ما أضفى على شعره صبغة فكرية وسياسية عميقة.
وبسبب جرأته اللفظية والمعنوية، اتّهم بـزندقة بشار بن برد، أي الخروج عن الدين أو التلاعب بالمقدسات، وهي تهمة خطيرة آنذاك. وقد دافع عن نفسه مرارًا، لكنه في نهاية المطاف أغضب الخليفة المهدي، فحكم عليه بالإعدام، وقيل إنه قتل ضربًا بالسياط سنة 168 هـ.
ورغم أن بشار بن برد أعمى، إلا أن أشعاره تتضمن صورًا بصرية غاية في الدقة، ما يدل على قوة خياله واطلاعه الواسع على الفنون واللغة.
كان هجّاءً شرسًا، ولم يكن يخشى السلطة، وكان سريع البديهة في السجال والردود. ورغم ذلك، فقد كانت له لحظات تأملية، وأشعار تنمّ عن حزن داخلي، وألم نفسي دفين، ربما بسبب العمى، وربما بسبب شعوره الدائم بالاختلاف عن غيره. [1]
تعرف أيضًا على: مي زيادة وأدب الرسائل بين الحنين والتمرد
هل بشار بن برد من شعراء الزهد؟
يصعب تصنيف بشار بن برد ضمن الزهاد، فهو لم يكن زاهدًا بالمعنى الديني المتعارف عليه، بل كان شاعرًا ماديًّا في نظراته، حسيًّا في وصفه، وساخرًا من مظاهر التصنّع الأخلاقي. إلا أن بعض الباحثين لاحظوا وجود نبرة تأملية في بعض قصائده، توحي بقلق وجودي أو حيرة تجاه العالم والمصير.
في الحقيقة، كان بشار يرى أن الحياة تعاش، ولا تؤجل، وكان يحتفي بالجمال واللذة، ويعبّر عنها دون تحفّظ، ولهذا يصعب القول إنه من شعراء الزهد، لكنه في الوقت نفسه، لم يكن بلا فكر أو روح، بل كانت له رؤيته الخاصة للعالم، التي يعبّر عنها بخفة الظل والسخرية العميقة.
يتجلّى هذا التناقض بوضوح في بشار بن برد غزل، إذ لا يكتفي بوصف المحبوبة وصفًا تقليديًا، بل يصنع صورًا مبتكرة جريئة. يقول مثلًا:
إذا أبصرتْني أعرضتْ
كأن لم تكن لي بذات الوصال
فأعرض عنها كأنّي الغني
ولي في الجفاء اقتدار الرجال
ويمتد هذا الغزل في مساحات شعرية تتجاوز الوصف الجسدي إلى نقد اجتماعي ضمني، إذ يسخر من تقاليد المجتمع ومن نظرة المرأة للرجل.
تعرف أيضًا على: أقوال إحسان عبد القدوس – أدب العقل والقلب في مواجهة الواقع
وفي السياق ذاته، يتّضح التميّز في الغزل في شعر بشار بن برد، فهو غزل متمرّد، لا ينحني أمام أعراف القبيلة أو معايير الأخلاق التقليدية. في كثير من الأحيان، نراه يصف الحب بوصف عنيف، أو يخلط بين العشق والتحدي، فيخرج من دائرة الحب الرومانسي إلى منطقة تعبيرية أكثر حدة.
ما هي قصة بشار بن برد؟
حياة بشار بن برد مليئة بالقصص الغريبة، وأبرزها تلك التي دارت حول زواجه. هناك أكثر من رواية حول قصة بشار بن برد مع زوجته، أشهرها أنه تزوّج من امرأة ذات حسب ونسب، لكنها كانت تعيّره بكونه أعمى. فكان ردّه أن طلقها بقصيدة هجاء لاذعة، قال فيها:
إذا أبصرتْني قالتْ أعمى
وإن غبتُ عنْها تُهدي السلاما
فليستْ بزوجٍ، بلْ هي أذى
تُطيلُ الملامَ وتنسى الملاما
هذه القصيدة تظهر حساسيته الكبيرة تجاه كرامته، وسرعة رد فعله، وقدرته على تحويل الألم إلى مادة شعرية ساخرة. وهناك من يقول إن قصته مع زوجته لم تكن مجرد خلاف عاطفي، بل كانت تجسيدًا لمعاناته الأعمق مع مجتمعه الذي لم يقبله كما هو.
تعرف أيضًا على: الملك حمد بن عيسى آل خليفة راعي الإصلاح في مملكة البحرين
وتتعدد الروايات حول حياته العائلية، منها ما هو حقيقي، ومنها ما يبدو أنه صنع للتسلية أو التشويه، بسبب عداء خصومه الفكريين له. لكنه ظل، في كل الأحوال، شخصًا مركّبًا، لا يختصر في صورة واحدة، بل تتقاطع فيه النزعات الشخصية والسياسية والفكرية. [2]
أشهر قصائد بشار بن برد
امتاز بشار بن برد بغزارة إنتاجه الشعري، وقد ضم ديوانه قصائد في أغلب أغراض الشعر العربي، من غزل وهجاء ومدح ووصف وحكمة، ومن أبرز قصائده:

قصيدة في وصف الغيم والمطر
كأن سُحُبًا تهادى في مفارقها
دمعُ العذارى على الأجفان ينهملُ
قصيدة في المدح السياسي
إذا ما مدحتُ بني العباس لم أعدِ
فضلًا على الفضل، أو قدرًا على قدرِ
تعرف أيضًا على: الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: رائد التنمية والإبداع في دبي
وقصيدة في هجاء خصومه
أما ترى الأرض قد زالت معالمها
حين استوى فوقها الجهلُ والبَطَرُ
وقصيدة في الفخر الذاتي
إذا ما غضبتُ، فإنّي سريعٌ
وليس لعذلي إذا ضقتُ صبرُ
قصيدة فلسفية عن الموت
إذا ما مات ذو عقلٍ وتُركتْ
رؤوسُ الجُهّالِ تزهو، فذا كدرُ
قصيدة غزلية مرحة
وقالتْ تعالَ إلى قبلةٍ
فقلتُ: ومن يمنعُ المُجتبي؟
هذه القصائد وغيرها من كنوز شعر بشار بن برد التي تركت بصمة جريئة في مسيرة الشعر العباسي.
تعرف أيضًا على: الشيخ زايد بن سلطان ومسيرته في تأسيس الإمارات
لقد مثّل بشار بن برد صوتًا مغايرًا في الشعر العربي، صوتًا خرج من الظلام ليصنع ضوءًا خاصًا به. لم يكن شاعرًا تقليديًا. بل كان متمرّدًا، هجّاءً، عاشقًا، ساخرًا، وصاحب رأي. في شخصيته تلاقت الفنون والعيوب، وفي شعره تلاقى الغزل والهجاء، الفلسفة واللعب، الإيمان والشك. علاوة على ذلك سيظل اسمه حاضرًا في كل حوار عن الشعر الذي يقاوم التصنيف، ويتجاوز حدود الأعراف.
المراجع
- Britannica Bashshār ibn Burd - بتصرف
- Poetry soup Bashar ibn Burd Biography | Poet_بتصرف
مشاركة المقال
وسوم
هل كان المقال مفيداً
الأكثر مشاهدة
ذات صلة

هواري بومدين زعيم الجزائر الذي رسّخ الهوية بعد...

محمد بن زايد آل نهيان حاكم الإمارات ودوره...

عبد الله الثاني بن الحسين: ملك الأردن وتاريخها...

عظماء غيروا مجرى التاريخ

الملك حمد بن عيسى آل خليفة راعي الإصلاح...

الملك حسين وزوجاته لمحة عن حياته العائلية وعلاقاته...

أدونيس والتجريب الشعري في تجديد القصيدة العربية

الشيخ تميم بن حمد آل ثاني: أمير قطر...

مي زيادة وأدب الرسائل بين الحنين والتمرد

الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: رائد التنمية...

يوسف إدريس ولغته التي جسّدت نبض الشارع المصري

الشيخ محمد بن زايد آل نهيان: زعيم بصناعة...

الفرزدق والوجه الآخر للشعر مرايا القبيلة والذات

الشيخ زايد بن سلطان ومسيرته في تأسيس الإمارات
