عبد الوهاب البياتي والبعد الصوفي في القصيدة الحديثة

عبد الوهاب البياتي، من هو هذا الشاعر الذي أضفى على الشعر العربي الحديث مسحة صوفية عميقة؟ سؤال يطرح كلما استحضرنا أسماء المبدعين الذين أطلّوا على القصيدة العربية من نافذة جديدة تمزج بين الغيب والواقع، بين الذات والكون، بين الثورة والتأمل. والجواب يكمن في تجربة شعرية فريدة نسجت من الغربة والمنافي، ومن العشق والعقيدة، لغةً تتجاوز المألوف.

ما هي أشهر قصائد عبد الوهاب البياتي؟

شكّلت قصائد عبد الوهاب البياتي نقطة تحوّل في مسيرة الشعر العربي الحديث. فقد زاوج فيها بين الرمزية والتصوف، وبين الحداثة والبعد الإنساني. كانت قصيدته ليست مجرّد تركيب لغوي بل معادلاً وجوديًا لرحلته في المنفى والحنين والانتماء.

من أبرز هذه القصائد “الموت في المنفى”، وهي قصيدة تجسّد معاناة النفي والتمزق الداخلي. يمكننا تحليل قصيدة عبد الوهاب البياتي الموت في المنفى من خلال محاور متعددة: فهي لا تكتفي برصد تجربة النفي المادي. بل تتعداها إلى الاغتراب الوجودي. يتجلى ذلك في لغة مشحونة بالرموز الصوفية والأنين الإنساني، وتظهر فيها صور مثل “الريح”، و”الظلال”، و”القبور”، لتكون كل واحدة مرآة للغربة والانكسار.

تعرف أيضًا على: أدونيس والتجريب الشعري في تجديد القصيدة العربية

ولا تقل قصيدة “سفر الفقر والثورة” أهمية. حيث استخدم فيها صورة المتصوف التائه والناسك الثائر لتمثيل الحالة العربية في منتصف القرن العشرين. كما أن قصيدته “نزلوا فجرًا” واحدة من القصائد التي تقرأ في سياق قصائد عبد الوهاب البياتي الثورية، لما فيها من صور صادمة، ووصف دقيق لانهيارات المجتمعات المقموعة.

أيضًا نجد قصيدته “حديث مع زرقاء اليمامة” التي تنتمي إلى المدرسة الرمزية. وتستعيد الأساطير القديمة برؤية معاصرة تعكس هموم الواقع العربي. وتبقى بصمته الخاصة في دمج الرمز الصوفي، كالحلاج والسهروردي وابن عربي، مع صور سياسية معاصرة ما يجعل قصائده متعددة الأبعاد والدلالات.

أما قصيدة عبد الوهاب البياتي عن الثورة الجزائرية، فهي من النصوص القليلة التي تنقل الثورة بوصفها فعلًا روحيًا ونضاليًا في آن. حيث اختلطت أصوات الشهداء بصوت الإنسان المتحرر، واستخدم فيها صور النخيل والدم والقبور لتجسيد أرض الجزائر كأنها روح صوفية تتطهّر من الاحتلال. [1]

تعرف أيضًا على: بشار بن برد وجرأة المعنى: شاعر الضد والاختلاف

من هو عبد الوهاب البياتي؟

يعد عبد الوهاب البياتي من أبرز الشعراء العرب في القرن العشرين، ولِد في بغداد عام 1926 ونشأ في بيئة فقيرة أثّرت في تكوينه الشعري والفكري. درس في دار المعلمين العالية، ثم انطلق في مسيرة مهنية تنقل فيها بين التدريس والصحافة والعمل الدبلوماسي، قبل أن يغادر العراق ويعيش حياة طويلة في المنافي، متنقلًا بين دول عديدة مثل إسبانيا وسوريا ولبنان وروسيا.

تميّز البياتي بتجربة شعرية غنية ومتعددة الاتجاهات، وقد ساهم بشكل كبير في تأسيس الحداثة الشعرية العربية. عرف بمواقفه السياسية الجريئة. بالتالي أدى إلى نفيه أكثر من مرة. كما برزت في شعره موضوعات مثل المنفى، والحرية، والموت، والاغتراب الروحي.

وقد كتب عددًا من الأعمال الأدبية والنثرية. وتعد كتب عبد الوهاب البياتي مثل أشعار في المنفى والذي يأتي ولا يأتي من أهم ما تركه من تراث فكري يعكس تطوره الشعري، وارتباطه العميق بالقضايا العربية والإنسانية.

تعرف أيضًا على: مي زيادة وأدب الرسائل بين الحنين والتمرد

ما هي خصائص شعر عبد الوهاب البياتي؟

تميّز شعر عبد الوهاب البياتي بتعدد مستوياته الفنية والفكرية. فقد شكّل مع مجموعة من شعراء العراق في خمسينيات القرن الماضي، ثورة في بنية القصيدة العربية. حيث ساهم في ترسيخ مفهوم الشعر الحديث عبر تجربة غنية بالمضامين والأساليب. كانت قصيدته محمّلة بالتجريب والرؤية الإنسانية، متجاوزة الأساليب التقليدية. لتصبح نموذجًا للقصيدة الجديدة التي تستند إلى الرمز والتأمل والتحليل الوجداني والوجودي.

من أبرز خصائص شعر البياتي اعتماده على التجربة الذاتية المنفتحة على العالم. فهو لا يكتب من موقع المراقب. بل من موقع الإنسان الذي يعيش الصراع داخليًا وخارجيًا. استخدم في نصوصه رموزًا دينية وتاريخية وأسطورية، مثل شخصية الحلاج، وبيرم، وسقراط، وعبلة، ليعبّر من خلالها عن صراعه مع الموت، والسلطة، والزمن، والمنفى، والحب. كما وظّف اللغة الشعرية بطريقة تلامس الموسيقى الداخلية للنص، فكانت قصائده تتمتع بإيقاع متدفّق، بعيد عن التكلّف البلاغي.

تعرف أيضًا على: يوسف إدريس ولغته التي جسّدت نبض الشارع المصري

ولعل أبرز ما يميز أسلوبه هو إدماجه بين البعد الصوفي والسياسي، فهو شاعر التأمل والاحتجاج في آنٍ معًا. قد نقرأ في قصائده نصًا صوفيًا عن الفناء والحلول، لكن ما يلبث أن يتحوّل هذا النص إلى بيان سياسي ضد الظلم والقمع، في تجلٍّ خاص لجمالية التداخل بين الرمزي والواقعي.

وفي سياق الحديث عن عبد الوهاب البياتي والشعر العراقي الحديث، فإن تأثيره في هذا التيار لا يمكن إنكاره. فقد كان أحد أعمدته الأساسية، إلى جانب بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وساهم في تثبيت أركان قصيدة التفعيلة. ثم انفتح على أساليب جديدة شكلت انتقالًا نحو الشعر الحر. كما أن تجربته كانت مصدر إلهام لعدد كبير من الشعراء العراقيين والعرب الذين ساروا على خطاه في التمرد على النماذج التقليدية والبحث عن أشكال تعبيرية أكثر صدقًا وتعبيرًا عن الواقع.

تعرف أيضًا على: الفرزدق والوجه الآخر للشعر مرايا القبيلة والذات

يمكن تلخيص أبرز خصائص شعر البياتي كما يلي:

• استخدام الرمز الصوفي والأسطورة التاريخية.
• الدمج بين البعد السياسي والروحي في النص.
• الاعتماد على الموسيقى الداخلية بدلًا من الشكل العمودي التقليدي.
• التناص مع شخصيات من التراث العربي والغربي.
• الكتابة من موقع الذات المنفية والمقهورة.
• تأملات عميقة في قضايا الموت، والمنفى، والهوية.
• استخدام القناع كأداة فنية للهروب من المباشرة.
• انفتاح النص على القارئ وتعدد مستويات التأويل.
• تأثر بالشعر الغربي، خاصة الروسي والإسباني.
• محورية التناقضات (الوطن والمنفى، الحياة والموت، الحب والانكسار).

لقد كان شعر البياتي محاولة مستمرة لتجاوز السائد، وتفجير طاقات اللغة، وجعل القصيدة وثيقة احتجاج وصلاة حب في آنٍ واحد. وهو ما جعله علامة فارقة في تاريخ الشعر الحديث. [2]

من هو عمر عبد الوهاب؟

قد يختلط على البعض اسم عمر عبد الوهاب باسم الشاعر عبد الوهاب البياتي، لكن الحقيقة أن عمر عبد الوهاب ليس شخصية أدبية مشهورة في السياق الشعري العربي. بل من المحتمل أن يكون شخصية مغمورة أو مشتبهًا فيها عند البحث أو تداول المعلومات. ولذلك، يجدر توضيح أن الكثير من المعلومات المتداولة حول “عمر عبد الوهاب” إما غير دقيقة أو لا تتعلق مباشرة بسياق الأدب والشعر الحديث.

لكن في المقابل، من المفيد هنا أن نسلّط الضوء على بعض الموضوعات التي تناولها البياتي في شعره. مثل انشغاله بالثورات وقضايا التحرر العربي. فقد كتب قصيدة عبد الوهاب البياتي عن الثورة الجزائرية في سياق دعمه لحركات المقاومة ضد الاستعمار. وتجلّى في نصوصه التلاحم بين الكلمة والسلاح، وبين الشعر والنضال. في هذه القصيدة، عبّر البياتي عن روح النضال الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي. واستلهم من نضال الشعب الجزائري رمزية للحرية، والصمود، والأمل في تحرير الإنسان العربي من كل أشكال القهر.

تعرف أيضًا على: عبد الله الثاني بن الحسين: ملك الأردن وتاريخها وأبرز ملوك المملكة

هذه المواقف تبرز أن البياتي لم يكن شاعر تأملات فقط، بل كان أيضًا شاعر قضايا وثورات. جعل من القصيدة منبرًا يعبر عن صوت المظلومين والمناضلين في كل مكان. لذا، فإن حضوره لم يكن فقط فنيًا، بل كان إنسانيًا وثوريًا في آنٍ واحد.

في الختام، نستطيع القول إن تجربة عبد الوهاب البياتي الشعرية كانت واحدة من أكثر التجارب عمقًا وتأثيرًا في تاريخ الشعر العربي الحديث. فقد مزج بين الهم الإنساني والوجد الصوفي، وبين النضال السياسي والرمز الشعري، ليخلق عالمًا شعريًا فريدًا ومليئًا بالدلالات. سواء في قصائده التي تناولت قضايا الثورة والمنفى، أو في تحليلاته العميقة للوجود والذات، ظل صوته حاضرًا ومؤثرًا في الأدب العربي، وشكّل مصدر إلهام لأجيال من الشعراء والمثقفين.

• Jstor Abd al-Wahhāb al-Bayātī's Poetics of Exile - بتصرف
• Encyclopedia Bayati, Abd al-Wahhab al- (1926–1999)_بتصرف

مشاركة المقال

وسوم